تراجع تدريجي: “لحظة غزة” واختبار الهيمنة الأمريكية – ECSS

على الرغم من أن الحديث عن “القرن الأمريكي” يعود إلى فترة الأربعينيات، فإنه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي كان الحفاظ على التفوق الأمريكي في نظام أحادي القطبية هو الهدف الاستراتيجي الرئيس للولايات المتحدة، بطريقة عكست محاولة لتجاوز التخوف التاريخي بشأن المصير المحتوم المرتبط بانهيار القوى العظمى والإمبراطوريات. وللحفاظ على مكانتها العظمى قادت واشنطن جملة من التحركات وتبنت كذلك مجموعة من السياسات والاستراتيجيات التي مكنتها من تعظيم قوتها لكي تحتل الريادة العالمية. ولكن شهد هذا الوضع بعض التحولات التي ارتبطت في جانب منها بأداء الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، واستندت في جانب آخر إلى التغير في مكانة وقدرات بعض الدول الأخرى.

وفي هذا السياق، يتضح أنه منذ عملية “طوفان الأقصى”، التي اندلعت في 7 أكتوبر الماضي وما تبعها من عدوان إسرائيلي غاشم على قطاع غزة، تخضع حالة الهيمنة الأمريكية لفترة اختبار. فكما نالت “لحظة السويس” عام 1956 من هيبة ومكانة بريطانيا كقوة عظمى، يبدو أن “لحظة غزة” باتت تشكل تأثيرًا مشابهًا على الولايات المتحدة، ولا سيما أنها أتت في مرحلة يعاني فيها نموذج الهيمنة الأمريكي مجموعة من الإشكاليات والتحديات التي لا تضع فقط عوائق أمام تحركاته، بل ربما تهدد استمراره وبقائه. 

الجدل حول الهيمنة الأمريكية

في القرن العشرين أدركت الولايات المتحدة أن لها دورًا يجب أن تلعبه على الساحة الدولية، وهو ما علق عليه السياسي الأمريكي المحنك “هنري كيسنجر” بقوله إن الدور الأمريكي المحوري على الساحة الدولية لا ينبغي أن يقوم على هدف محدد لمواجهة الشيوعية، وإنما ينبغي أن يكون الهدف “بناء إجماع أخلاقي قادر على جعل العالم التعددي عالمًا مبدعًا وليس مدمرًا”. موضحًا أن أي تصور ناضج للمصالح الأمريكية “يجب أن يأخذ في الاعتبار الاهتمام الواسع النطاق بالاستقرار والتغيير السلمي”. لافتًا إلى أنه ليس بالضرورة أن تعمل الجهود الأمريكية بشكل منفرد، ولكن من المهم أن تظل هذه الجهود هي القادرة على “إحداث الفارق بين النجاح والفشل”. 

خلال السنوات الأخيرة باتت مسألة مآلات الهيمنة الأمريكية محل بحث وتحليل من قبل مفكري العلاقات الدولية، وقد انقسموا بشأنها إلى فريقين:

الأول- استمرار الأحادية القطبية:

يؤكد أنصار هذا التيار على استمرار الهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية للنظام الدولي بالاستناد إلى أن تزايد قوة الدول الأخرى لن يسمح لها – في ضوء المؤشرات الحالية – بمنافسة الولايات المتحدة كقوة عظمى تتربع على رأس النظام الدولي. 

وفي ضوء التحليلات التي يقدمها أنصار هذا التيار يتضح أن الولايات المتحدة ليست إمبراطورية بالمعني التقليدي الذي يعني في مضمونة ذات المصير المحتوم لكافة الإمبراطوريات على مدار التاريخ. فالقوة الأمريكية لا تعتمد فقط على القوة الغاشمة، وإنما تعتمد أيضًا على الأفكار والقيم والمؤسسات، بما يعني اعتمادها على مسألة (النموذج الملهم) والذي سعت إلى بلورته وتلميعه من خلال قوتها الناعمة. 

الثاني- تراجع الهيمنة الأمريكية:

يعتبر أنصار هذا التيار أن الهيمنة الأمريكية في حالة تراجع في ضوء تزايد دور وقوة ونفوذ دول أخرى، ولا سيما ما يطلق عليها “قوى المراجعة” أو “القوى التعديلية” التي تسعى إلى إعادة تشكيل بنية النظام الدولي، يقصد بها بشكل رئيسي (روسيا والصين). 

وبالنظر إلى التحليلات التي يقدمها أنصار التيار الثاني يتضح أن القرن الأمريكي يشهد بالفعل حالة من التراجع، إذ لم تعد واشنطن هي المهيمن الأساسي على الأفكار والثروات والمؤسسات والتحالفات. وهو الأمر الذي دفع بعض هذه التحليلات إلى تبني التصور القائم على أن العالم بات على مقربة من “مرحلة ما بعد القرن الأمريكي”، وذلك في ضوء ليس فقط تراجع وخفوت الجاذبية والبريق الأمريكي، وإنما بالاستناد إلى التنافس بين القوى الدولية، والصعود الصيني، وتزايد دور دول الجنوب على الساحة العالمية.

وارتباطًا بذلك، يتضح أنه من الجدير بالذكر أن النظام الدولي لا يعكس – بشكل حسابي – تركيز القوة، وإنما هو نظام معقد ومتشابك ومتعدد الأبعاد، الأمر الذي يعني أن هناك صعوبة في اعتباره مجرد أداة في يد القوة المهيمنة. ومن ثم، فإن استمرار النفوذ الأمريكي على الساحة العالمية يرتبط بقدرتها على التفاعل بشكل إيجابي. علاوة على ذلك، فإن تصاعد قوة ونفوذ بكين وموسكو بات يفرض على واشنطن ضرورة إدراك الطبيعة متعددة الأقطاب للنظام الدولي، بما قد يحد أو يضع عوائق أمام تحركاتها على الساحة العالمية، وهو ما يتطلب سياسة أمريكية أكثر عقلانية ورشادة.

أسباب هيكلية وعوامل متداخلة

يمكن القول بشكل عام إن ذروة الهيمنة الأمريكية استمرت لقرابة العشرين عامًا، أي منذ سقوط جدار برلين عام 1989 وحتى الأزمة المالية العالمية في عام 2008، في العديد من مجالات القوة العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية. وقد تبلورت أبرز تجليات الهيمنة الأمريكية في غزو العراق عام 2003 بعد غزوها لأفغانستان عام 2001. إلا أن وضع الهيمنة الأمريكية بدأ يشهد حالة من التراجع التدريجي الذي تسببت فيه مجموعة من العوامل المتداخلة والمتراكمة وصولًا إلى العدوان الإسرائيلي على غزة.

  1. مشكلات الساحة الداخلية بأبعادها المختلفة:

من الجدير بالذكر أن قوة الدولة خارجيًا تعد انعكاسًا لتماسكها وقوتها الداخلية، لذا، فإن المشكلات المركبة والمعقدة التي تشهدها الساحة الأمريكية تلقي بتأثيراتها السلبية على صورة ومكانة الولايات المتحدة في الخارج. فالاستقطاب أمسى شديدًا داخل المجتمع الأمريكي؛ وهناك صعوبة كبيرة في التوصل إلى إجماع بشأن أي أمر تقريبًا، إذ تجاوز الخلاف حول القضايا التقليدية، كالضرائب والإجهاض، إلى صراع حول الهوية، ناهيك عن الانقسامات المجتمعية الكبيرة، وتزايد معدلات العنف بشكل ملحوظ. هذا، وقد بلورت أزمة ولاية تكساس المنحى التصعيدي الجديد لحالة الانقسام المعقدة التي تشهدها الساحة الأمريكية؛ إذ تصرفت الولاية كدولة مستقلة وتجاهلت القرارات المركزية، وهو ما لاقى تأييد من ولايات جمهورية أخرى. علاوة على ذلك، تشهد الولايات المتحدة فجوة متسعة في الثروات والدخول بين الأغنياء والفقراء، وهو ما يحمله ارتباطات واضحة بالأبعاد العرقية. 

وقد نجم عن كل هذه التعقيدات حالة من انعدام الثقة الجماعية في الحكومة والمؤسسات والإعلام والنظام السياسي بل ومؤسسة الرئاسة ذاتها. أشار المؤرخ الأمريكي “موريس بيرمان” في كتابه (Why America Failed: The Roots of Imperial Decline) إلى تراجع الإمبراطورية الأمريكية والوصول إلى حالة من الضعف الاقتصادي والعجز السياسي والانقسام المجتمعي. كما لفت الكاتب والروائي “ستيفن مارش” في كتابه: (The Next Civil War) إلى أن الولايات المتحدة تتجه صوب كارثة، إذ باتت على مشارف “حرب أهلية جديدة” يستعصي مواجهتها.

  1. اختلالات النموذج الأمريكي داخليًا وخارجيًا

على الرغم من السعي الأمريكي المستمر لتقديم نموذج مختلف وملهم وأكثر جاذبية بما يعزز من استمرار الدور والنفوذ الأمريكي من جانب، ويدعم الهيمنة الأمريكية من جانب آخر، إلا أن هذا النموذج قد نجم عنه عدد من المشكلات والأزمات في الداخل الأمريكي وعلى الساحة الدولية على السواء. داخليًا، يتضح أن الحديث عن النموذج الديمقراطي الأمريكي يظل محل انتقاد في ضوء ما يتضح من محدودية التجديد داخل النخبة الأمريكية، وتزايد تأثير ونفوذ المال السياسي، وتوجيه الإعلام والتحكم به، واستمرار العبودية في صورها الحديثة، وأيضًا استمرار العنصرية في قوالب مختلفة بالتوازي مع تزايد العنف المحلي. وقد مثلت حادثة اقتحام مبنى الكابيتول هيل عام 2021 أبرز وأهم انعكاس للخلل الذي تشهده منظومة الديمقراطية الأمريكية.

أما خارجيًا، فعلى الرغم من الحديث واسع النطاق حول محورية الدور الأمريكي في نشر الحرية والديمقراطية حول العالم، إلا أن الواقع يكشف عن سلسلة طويلة من الإخفاقات الخارجية الأمريكية التي تسببت في مشكلات واسعة النطاق؛ ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، والذي لم تتوقف تداعياته السلبية عند حدود الانتهاكات التي اُرتكبت بحق الشعب الأفغاني لقرابة العشرين عامًا، وإنما وصلت إلى الانسحاب الأمريكي العشوائي الذي أدخل البلاد في موجة من الفوضى والاضطرابات بما سمح بوصول حركة “طالبان” إلى الحكم مجددًا. وهذا المشهد ليس ببعيد عن الساحة العراقية التي دفعت تكلفة هائلة جراء الغزو الأمريكي في 2003. ومن خلال بلورة أمثلة أكثر حداثة يتضح أن واشنطن قد فشلت في ثني موسكو عن شن الحرب ضد كييف في 24 فبراير 2022، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما وصل إلى تبني مجموعة من الإجراءات العقابية التي لم تتوقف تداعياتها عند حدود روسيا ولكن طالت دول العالم أجمع وفي مقدمتها الدول النامية ودول الجنوب. وهذا كله إلى جانب تواضع وضعف تعامل الولايات المتحدة مع التهديدات غير التقليدية كقضايا البيئة والمناخ والأوبئة.. وغيرها.

  1. اضطراب الجبهة الغربية:

على الرغم من سعي الولايات المتحدة لتأطير هيمنتها في طور كونها قائدة المعسكر الغربي والمدافع عن النظام الليبرالي الحر، إلا أنها علاقاتها مع شركائها الغربيين قد شهدت موجات من الصعود والهبوط بطريقة أضرت بهذه السردية. فقد واجهت العلاقات عبر الأطلسي خلافات متكررة بشأن ميزانيات الدفاع والمساهمة التي يقدمها الحلفاء الأوروبيين في حلف “الناتو”. وقد تصاعدت حالة الانقسام على جانبي الأطلسي خلال فترة حكم الرئيس السابق “دونالد ترامب”، الذي وصف الاتحاد الأوروبي بأنه “عدو”، وربما أسوأ من الصين، كما ابتهج لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن إساءته للقادة الديمقراطيين (كالمستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”)، واحتضانه للقادة الأوتوقراطيين (كالرئيس المجري “فيكتور أوربان”). علاوة على ذلك، لم يقتصر الأمر على رفض “ترامب” إعادة الانخراط في أجندة الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي، التي تخلى عنها “باراك أوباما”، فحسب، بل فرض أيضًا تعريفات على واردات الصلب والألومنيوم من الحلفاء الأوروبيين. 

وعلى الرغم من محاولة الرئيس “جو بايدن” الانقضاض على إرث سلفه “ترامب”، والعمل على إعادة تقوية الجبهة عبر الأطلسية، وهو ما تجلي في الدعم الأمريكي الهائل الذي قدمته واشنطن لأوكرانيا لتقوية جبتها في وجه روسيا منذ 24 فبراير 2022، إلا أن هناك ثمة مؤشرات على تراجع الثقة في الولايات المتحدة بين الحلفاء الأوروبيين. فقد أوضح استطلاع لمركز “بيو” خلال منتصف عام 2023 أن الأغلبية في 11 دولة ضمن 23 دولة شملها الاستطلاع تعتبر أن الولايات المتحدة لا تأخذ مصالحها في الاعتبار، وهذا الشعور “قوي بشكل خاص” في أوروبا. على سبيل المثال، يقول ثمانية من كل عشرة في المجر وإسبانيا إن واشنطن لا تأخذ مصالحهم في الاعتبار، ويقول ما يقرب من سبعة من كل عشرة في فرنسا والسويد نفس الشيء.

  1. تحدي الخصوم للنفوذ الأمريكي:

على الرغم من كافة المساعي الأمريكية للتضييق على الصين إلا أن الولايات المتحدة لم تنجح – حتى الآن – في وقف التصاعد الصيني، إذ اتسعت مجالات التنافس الأمريكي الصيني بشكل واضح سياسيًا واقتصاديًا – وإلى حد ما – عسكريًا. وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية المتصاعدة على المجال التكنولوجي إلا أنها دفعت الصين صوب التطوير المحلي بطريقة عززت من مجالات قوتها. ومن ناحية أخرى، يتضح أن الصين وروسيا تسعى لتشكيل جبهة دولية من شأنها تحدي النفوذ الأمريكي، وتأطير أجندة دولية أكثر تمثيلًا وتشاركية. 

ومن ثم، يبدو أن هناك مسار لتحدي الهيمنة الأمريكية عبر تقوية العلاقات بين الصين وروسيا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا؛ فأثناء زيارة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للصين، في مايو 2024، أكدت بكين وموسكو مجددًا على “علاقتهما الاستراتيجية” من خلال التوقيع على بيان مشترك والتعهد بالتعاون ضد الضغوط “المدمرة والعدائية” التي تمارسها واشنطن. علاوة على ذلك، فقد أكد “بوتين” خلال الاجتماعات مع نظيره الصيني “شي جينبينج” أن موسكو مستعدة للعمل مع بكين ودول جنوب العالم الأخرى نحو “عالم متعدد الأقطاب”، في حين قال “شي” إن البلدان ملتزمان بتوجيه الحوكمة العالمية “في الاتجاه الصحيح”، أي تحدي النظام العالمي القائم الذي تقوده الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، انتقد الرئيسيين واشنطن وحلف “الناتو” لإحداث تأثيرات سلبية على السلام والاستقرار الإقليميين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال إنشاء “تجمعات مغلقة وحصرية” وتوسيع الوجود العسكري.

  1. تزايد دور دول الجنوب:

لطالما مثلت هيمنة الولايات المتحدة على الساحة العالمية انتصارًا واضحًا لأجندة الغرب، ودعمًا لرؤيته وأطروحته، إلا أن تزايد دور دول الجنوب العالمي سيفرض – بشكل أو بآخر – حدود على الأجندة الغربية بل ويضع قيود أمام المدافع الرئيسي عنها (الولايات المتحدة). فعلى الرغم من أن الحديث عن تزايد دور دول الجنوب قد ارتبط بشكل وثيق بالحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن الواقع يكشف أن تزايد هذا الدور يرجع إلى الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كونها ألحقت الضرر باقتصادات دول الشمال المتقدمة، ونالت من مصداقية (إجماعَ واشنطن) الذي يمثل حجز الزاوية للنظام الاقتصادي الدولي الليبرالي. 

يعد توسع مجموعة “بريكس” علامة على صعود الجنوب العالمي، ويعكس كذلك تراجع للهيمنة الأمريكية وأساسها الأيديولوجي؛ إذ تفترض الاستثنائية الأمريكية أن الولايات المتحدة هي الدولة “الأفضل” في العالم، وتصور هيمنة واشنطن باعتبارها سمة دائمة للسياسة العالمية، وهو ما تحاول مجموعة “بريكس” موازنته وضبط إيقاعه بما يعزز من مصالح الدول غير الغربية. وجاءت قمة “بريكس” الخامسة عشرة في أواخر أغسطس 2023 بعد أشهر من العمل المتواصل لتوسيع هذه المنصة بما يعزز من دورها على الساحة الدولية. وبحلول نهاية القمة، أضافت “بريكس” ستة أعضاء جدد: الأرجنتين وإثيوبيا ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران. وقد قوض هذا التوسع تقارير وسائل الإعلام الغربية التي روجت لوجود انقسامات داخل المجموعة. هذا، وتعد مجموعة “بريكس” مجرد مثال واحد من الأمثلة العديدة على القوة المتنامية للعالم المتعدد الأقطاب، وبالتالي فإن التوسع التاريخي لمجموعة “بريكس” يضخ المزيد من الآفاق والآمال في النظام العالمي الذي شهد الكثير من الدمار بسبب الأحادية القطبية التي تقودها واشنطن.

دعم إسرائيل والإضرار بالهيمنة الأمريكية

يبدو من الصعب تقييم الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية دون النظر في تأثير التطورات الدموية الجارية على الساحة الفلسطينية، في ظل قيام آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة باستهداف قطاع غزة بلا هوادة مما أدى إلى اتساع نطاق الضحايا من النساء والأطفال. وهو ما ساهم بشكل واضح في النيل من صورة ومكانة وسمعة الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى التي تتربع على رأس النظام الدولي، وذلك في ضوء كون ما يجري يناقض بشكل واضح وصريح أسس السردية الأمريكية التي عملت على الترويج لها لسنوات طويلة، بل ويقوض الأسس الأخلاقية التي تزعم واشنطن أن هيمنتها نابعة منها وترتكن إليها، الأمر الذي يعني فقدان الثقة في النموذج الأمريكي، وتزايد حالة عدم اليقين بشأن النظام الدولي الذي تدعمه وتقوده.

ويستند ذلك إلى حالة التناقض الصارخ بين التعامل الأمريكي مع الحرب الروسية الأوكرانية والعدوان الإسرائيلي على غزة؛ إذ اعتبرت واشنطن أن شن موسكو حربًا ضد كييف يمثل استهداف للنظام الدولي القائم على القواعد ونيلًا واضحًا من مكانة المؤسسية الدولية. ومن ثم، عملت واشنطن على إدانة موسكو داخل أروقة المؤسسات الأممية (الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومجلس حقوق الإنسان)، بالإضافة إلى دعم إدانة موسكو في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. وعلى النقيض من ذلك، سعت الولايات المتحدة إلى غل يد المؤسسية الدولية في التعاطي مع المجازر التي تقترفها إسرائيل بحق المدنيين في غزة، ووصل الأمر إلى دراسة فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية.

علاوة على ذلك، فإن تجنب الولايات المتحدة الإدانة الصريحة للانتهاكات الإسرائيلية في غزة، قد ساهم في التلاشي أكثر فأكثر لمسألة “التميز الأخلاقي” الذي تدعيه واشنطن، والذي تعتبره أبرز ما يميزها عن خصومها. فقد أدانت الإدارة الأمريكية الهجمات الروسية ضد المدارس والمستشفيات والبنى التحتية في أوكرانيا، في حين تحول الأمر إلى مجرد “مطالبة” لإسرائيل بحماية المدنيين، وهو ما يمكن استقراؤه في تصريح وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” الذي اعتبر فيه أن استهداف موسكو لمستشفى “ماريوبول” بأنه “جريمة حرب”، بينما تجنبت واشنطن إطلاق ذات التوصيف في غزة على الرغم من استهداف إسرائيل لأغلب – إن لم يكن كل – مستشفيات القطاع وتدميرها.

واتصالًا بذلك، يتضح أن “لحظة غزة” قد كشفت عن حالة “النفاق السياسي” وازدواجية المعايير في تعامل الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى المهيمنة على الساحة الدولية، بالاستناد إلى أن تعاملها مع هذا المشهد الدموي ناقض الدور الذي كان عليها أن تقوم به لدعم المؤسسية الدولية واحترام القانون الدولي، وهو ما يمكن تفكيكه في ثلاثة أمور رئيسية:

أولًا- دعم آلة الحرب الإسرائيلية: بالرغم من الخطاب الأمريكي بشأن دعم السلام العالمي وحفظ السلم والأمن الدوليين، وهو ما انعكس في الإدانة الكاملة لما قامت به روسيا بحق أوكرانيا، إلا أنها دعمت آلة الحرب الإسرائيلية وقدمت إليها الكثير من المساعدات والأسلحة. وعلى الرغم من إسهام بعض الضغوط في توقف بعض شحنات الأسلحة، إلا أن واشنطن أكدت أنها لن تتخلى عن دعم إسرائيل، حتى مع اتساع نطاق الضحايا من المدنيين، ولا سيما النساء والأطفال. فقد كشفت صحيفة “واشنطن بوست” في مارس الماضي، نقلًا عن مسئولين أمريكيين، عن قيام الإدارة الأمريكية بما يتجاوز “مائة” صفقة عسكرية مع إسرائيل منذ السابع من أكتوبر. كما أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال“، في مايو الماضي، إلى وجود صفقة عسكرية جديدة لإسرائيل تتجاوز قيمتها مليار دولار.

ثانيًا- غل يد المؤسسية الدولية: لم يتوقف الدعم الأمريكي لإسرائيل عند حدود تزويدها بالسلاح، وإنما تجاوز ذلك لغل يد مؤسسات المجتمع الدولي عن القيام بدورها لضمان السلام العالمي. فقد عمدت واشنطن إلى استخدام “الفيتو” في مجلس الأمن أكثر من مرة لدعم استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة وعرقلة التوصل لوقف إطلاق النار، إلى أن تم الدفع بقرار وقف إطلاق النار الأخير بمجلس الأمن في ضوء استمرار العدوان لقرابة الثمانية أشهر بلا هوادة. بل ووصل الأمر بواشنطن إلى إدانة المحكمة الجنائية الدولية والحديث حول فرض عقوبات عليها، هذه الإدانة التي لم تتوقف فقط عند الإدارة الأمريكية، وإنما وصلت إلى الكونجرس أيضًا، فقد قال رئيس مجلس النواب، “مايك جونسون”، إن مذكرات الاعتقال المزعومة بحق المسئولين الإسرائيليين “مشينة وغير قانونية”.

ثالثًا- التباطؤ في إدخال المساعدات: حملت حالة التصعيد المتنامية في غزة مؤشرات على مشاركة واشنطن في حملة الإبادة الجماعية التي تقودها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني من خلال التباطؤ في إرسال وإدخال المساعدات. فعلى الرغم من حث الإدارة الأمريكية لإسرائيل – بين الحين والآخر – على ضرورة إدخال المساعدات، إلا أنها لم تبذل الجهد المطلوب لمواجهة الوضع الإنساني الخطير الذي يعانيه أهالي قطاع غزة. ناهيك عن استهداف المتظاهرين الإسرائيليين لقوافل المساعدات التي كانت قادمة من الأردن لغزة، دون رد أمريكي مناسب على ذلك. علاوة على ذلك، تطل الإشكاليات المرتبطة بالرصيف العائم لتبلور الخلل الواضح في التعامل الأمريكي مع هذا الأمر؛ إذ لم تتوقف المسألة عند حدود تعطل عمل الجسر العائم نتيجة للأحوال الجوية بين الحين والآخر، وإنما وصلت لانتهاك القانون الدولي الإنساني في ضوء تأكيد مسئولين أمميين بقيام قوات الاحتلال الإسرائيلي باستخدام شاحنات المساعدات القادمة عن طريق الرصيف البحري والتنكر بزي عمال إغاثة للقيام بعملية تحرير الرهائن التي تمت في الثامن من يونيو الجاري.

وفي هذا السياق، يبدو أنه مع صعوبة الجزم باعتبار “لحظة غزة” إيذانًا بنهاية الهيمنة الأمريكية، لكن يظل من المؤكد أنها نالت من صورة ومكانة الولايات المتحدة، بل ونالت من النموذج الأمريكي سواء على الساحة الأمريكية، التي شهدت عدد كبير من التظاهرات الرافضة للعدوان الإسرائيلي والتي وصلت إلى “انتفاضة الجامعات”، أو على الساحة الدولية، التي بدأت تشهد أطروحات تجادل بأن استمرار الهيمنة الأمريكية لن يعزز الأمن ولن يؤدي إلى السلام، كما لن يسمح للنظام الدولي للقيام بدوره في حفظ السلم والأمن الدوليين. 

إلا إنه على النقيض من ذلك وبالرغم من الخلل الواضح في التعاطي الأمريكي مع العدوان الإسرائيلي على غزة، لا يزال الدور الأمريكي مؤثرًا في توجيه دفة الأحداث بالمنطقة وبناء مسار للتهدئة، وهو ما انعكس في المبادرة التي أطلقتها إدارة “بايدن” بشأن وقف إطلاق النار في غزة. الأمر الذي يعني محورية الدور الأمريكي بشأن التطورات المستقبلية بالمنطقة بالاستناد إلى ثلاثة أمور؛ ينصرف الأول إلى رؤية واشنطن إلى الإقليم وأهمية الانخراط لضبط معادلة تفاعلاته، ويستند الثاني إلى العلاقات التي تجمع دول المنطقة بواشنطن وإدراكهم لدورها، بينما يتصل الثالث بتواضع دول القوى الدولية الأخرى، بما فيها خصمي واشنطن (موسكو وبكين)، في التعامل مع التطورات الجارية بالمنطقة، ناهيك عن عدم امتلاكهم رؤى واضحة بشأن كيفية التعامل مع أزمات الإقليم.

مجمل القول، إن “لحظة غزة” تمثل نقطة مفصلية في تاريخ الهيمنة الأمريكية التي تواجه بالفعل مجموعة من الأسباب الهيكلية والعوامل المتداخلة التي تسببت في انحصارها وتراجعها. ويأتي الاختبار الذي فرضته “لحظة غزة” على الهيمنة الأمريكية بالاستناد إلى استهداف الأسس التي قام عليها النموذج الأمريكي، بل والكشف عن التناقض الواضح بين دعاوى أهمية الدور الأمريكي وحقيقة تأثيراته على أرض الواقع. ومن ثم يتضح أن تأثير “لحظة غزة” على دور ومكانة الولايات المتحدة هو تأثير ممتد، لا يتوقف عند العدوان الإسرائيلي الجاري على القطاع، ولن ينتهي بوقف الآلة العسكرية والشروع في مبادرة للتهدئة، وإنما سيحمل انعكاسات مستمرة خلال مراحل تطوره المستقبلية سواء اتجهت الأوضاع صوب الإخماد أو التصعيد. وهو ما قد يدعم فرص إعادة النظر في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بما يحقق نظامًا أكثر عدالة وتشاركية.