عن الاستعداد لانتخابات أميركا
مازال العامل الأميركي، للأسف، وبحسب ما دلّت عليه تجارب العقدَين الأخيرَين خصوصاً، المتغيّر الأبرز في تحديد التوجّهات الخارجية لدول المنطقة (تركيا وإيران والدول العربية)، وذلك بعكس ما ينبغي أن تكون عليه الحال، بمعنى أن تكون السياسات الخارجية للدول نابعةً من احتياجاتها الداخلية الاقتصادية والأمنية، وتعبيراً عن مصالح شعوبها وتطلّعاتها. لاحظ، مثلاً، كيف تغيّرت تحالفات المنطقة مع وصول دونالد ترامب إلى الحكم مطلع عام 2017، حين دخلت العلاقات السعودية التركية أزمةً حادّةً بعد التقارب الذي شهدته في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما (الولاية الأولى) والتي فضّلت (في ولايتها الثانية) التعامل مع إيران على حساب علاقاتها التقليدية مع الرياض وأنقرة، كما اندلعت أزمة حصار قطر، وتدهورت علاقات إيران بدول الخليج إلى درجة تعرّض السعودية لأول هجوم عسكري إيراني مباشر، عندما استُهدِفت منشآت ل”أرامكو” في سبتمبر/ أيلول 2019 بمسيّراتٍ وبصواريخ كروز، تشير مصادر المخابرات الأميركية إلى أنّها انطلقت من جنوب إيران وعبرت العراق إلى شرقي السعودية. وقد مثل استهداف السعودية ردّ إيران على إعادة إدارة ترامب فرض حظر على تصدير النفط الإيراني.
مع وصول بايدن إلى الحكم عام 2021 تغيّرت الاصطفافات من جديد، فانتهت أزمة حصار قطر، وعادت العلاقات التركية مع السعودية والإمارات إلى وضعها الطبيعي، ودخلت إدارة بايدن في مفاوضات جديدة مع إيران (لم تنجح) لإحياء الاتفاق النووي (2015)، الذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018. اليوم ومع احتدام التنافس على البيت الأبيض، خصوصاً بعد خروج بايدن من السباق الانتخابي، وتقدّم كامالا هاريس للظفر ببطاقة الترشّح عن الحزب الديمقراطي، يُتوقّع أن تشهد المنطقة اصطفافاتٍ جديدة بحسب الإدارة القادمة. ورغم أنّ بعضهم يظن أنّ إدارة ترامب الثانية، في حال فوزه، قد لا تشبه بالضرورة إدارته الأولى، لكنّ الواضح أن كثيراً لن يتغيّر في سياسات الرجل ومقارباته، بدليل ما حصل في آخر مؤتمر للحزب الجمهوري، إذ فقد الرجل السيطرة على نفسه، ولم يستطع التقيّد بالنصّ المكتوب أمامه، وراح كعادته يوزّع الاتهامات يمينًا وشمالًا.
في حال فوز ترامب، إذاً، سوف يدخل العالم كلّه، على الأرجح، في فترة جديدة من عدم اليقين، وسوف تكون منطقة الشرق الأوسط (وأوروبا طبعًا) الأكثر تأثّرًا. دول المنطقة بدأت، كغيرها، تعدّ العدّة لهذا السيناريو، فقرّرت إيران مثلًا أن تأتي بوجه أكثر “اعتدالًا” (مسعود بزشكيان) ليحلّ في محلّ رئيسها “المتشدّد” السابق (إبراهيم رئيسي، الذي قضى بحادث تحطّم طائرة). وقد أخذ الرئيس الجديد، حتّى قبل أن يتبوّأ منصبه، يرسل رسائل في الاتجاهات كلّها عن رغبته في الانفتاح والحوار. دول الخليج العربية أيضاً تدرس خياراتها، بعضها يبدو متحمّساً لعودة ترامب بناء على تجربتها السابقة معه، وبعضها متخوّف من عودته. مع ذلك لا يبدو واضحاً كيف ستتأثّر علاقات هذه الدول الخارجية، المرّة هذه، بعودة ترامب، خصوصًا في جوانبها الأمنية والسياسية، وموضوع التطبيع مع إسرائيل، والعلاقة مع إيران. تركيا أيضاً تستعدّ لاحتمالية عودة ترامب وتداعياتها، خصوصًا فيما يتّصل بالقضية السورية، فقد يحاول ترامب من جديد سحب قواته من شمال شرقي سورية، وقد أعطى للتوّ نائبه المفترض جي دي فانس إشارات في هذا الاتجاه، وقد يكون هذا أحد أسباب تعجّل تركيا لترتيب علاقاتها مع النظام السوري، لكن من دون أن تدفع الأكراد إلى حضنه من جديد.
ليس هذا الاحتمال الوحيد طبعاً، الذي تستعدّ له دول المنطقة، فهناك أيضًا سيناريو فوز كامالا هاريس بالبيت الأبيض. المشكلة مع هاريس أنّ توجهاتها، وإن كانت ستعكس في الأحوال جميعها الخطوط العامّة للحزب الديمقراطي، إلّا أنّها ما زالت غير واضحة. هل تكون مثلًا “كلينتونية”؛ أي تتبنى مقاربة إدارة بيل كلينتون الليبرالية التدخّلية (Liberal Interventionist)، بمعنى أن تكون مُستعدّة أكثر لاستخدام القوّة في السياسة الخارجية؟ هل تعود إلى الاهتمام بعملية السلام في الشرق الأوسط؟ هل تفرض مزيدًا من العقوبات على إيران؟ هل تكون قريبة من إسرائيل، أم تكون “أوبامية”، بمعنى أن تميل أكثر إلى مقاربة باراك أوباما الانعزالية فتُحجم عن لعب أدوار في الشرق الأوسط، مع ميل إلى الانفتاح على إيران وعلاقة صعبة مع إسرائيل والسعودية؟… هذه الأسئلة كلّها، وغيرها، ستكون محلّ بحث وتمحيص وصولاً إلى الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني (2024)، وبعده.
مقالات أخرى