على مدى تاريخها استقبلت منطقة الخليج العربي -ولاتزال- مبادرات واستراتيجيات لأمن الخليج العربي سواء من جانب الدول الكبرى أو المنظمات التي لديها مصالح حيوية في تلك المنطقة المهمة من العالم، وقد دأب بعض الباحثين على الربط بين تلك المبادرات والأهمية النفطية للمنطقة، وهذا صحيح في جزء كبير منه فالتحالفات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة في المنطقة كان سببها تهديد النفط سواء في مناطق الإنتاج أو ممرات النقل البحرية كما هو الحال في مضيق باب المندب جنوب البحر الأحمر، والبعض الآخر رأى أن دول الخليج والتي تصنف من الدول الصغرى والمتوسطة من خياراتها الأمنية بناء شراكات مع القوى الكبرى والمنظمات الفاعلة في العالم وبالتالي فإن مبادرات تلك القوى تجيء ضمن هذا الإطار، وفي خضم الجدل حول ما قدمته الأطراف الدولية للمنطقة من دعم أمني سواء خلال الأزمات أو ضمن مسار شراكات استهدفت تعزيز القدرات العسكرية لدول الخليج تثار تساؤلات حول المشروع الأمني لدول الخليج العربي، ولا أعني به أطر التكامل الأمني والدفاعي وهي معروفة وتشهد تطوراً على كل المستويات ولكن مبادرة مجلس التعاون الأمنية والتي ظهرت ملامحها الأولى في مارس 2024 من خلال إعلان أمينه العام السيد جاسم محمد البديوي الأمين العام رؤية للأمن الإقليمي، والتي اكتسبت في تقديري بداية مهمة في هذا المسار لكونها القضية الجدلية لقطاع كبير من باحثي الدول الغربية الذين لطالما أسهبوا في إثارة الجدل حول الرؤية الخليجية الجماعية لأمن الخليج وكانت حجتهم خلو الميثاق المنشئ للمجلس من الإشارة صراحة إلى مسألة التكامل في المجالين الأمني والدفاعي.
في حوار المنامة الأمني لعام 2022 الذي ينظمه سنوياً المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية قال الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون نايف الحجرف في كلمته بجلسة «مبادرات الشرق الأوسط لحل النزاعات الإقليمية»: إن «من أهم تلك المبادرات إنشاء مجلس التعاون والذي استهدف إيجاد إطار تعاون لتعزيز العلاقات والتنمية والازدهار، فعلى مدى السنوات الماضية أظهر المجلس قدرة مهمة للغاية على مواجهة التحديات والمخاطر واضطلع بدور عامل الاستقرار في المنطقة والعالم»، وواقع الأمر أن تلك الفقرة تعكس وبوضوح ظروف تأسيس مجلس التعاون ذاته والذي جاء بمثابة رد خليجي جماعي على تهديدات رأى قادة الخليج آنذاك أن ثمة ضرورة لمواجهتها بجهود جماعية، ليس هذا فحسب بل إدارة المجلس لأزمات أمنية إقليمية كان لها تأثير هائل في الأمن الوطني لدول الخليج، سواء من خلال جهود الوساطة أو التأثير داخل المنظمات الدولية، ومن ذلك قرار مجلس الأمن رقم 552 الذي صدر في يونيو 1984 خلال الحرب العراقية- الإيرانية بشأن تأكيد حرية الملاحة في المياه الدولية والطرق البحرية من وإلى سواحل وموانئ الدول التي ليست طرفاً في الأعمال الحربية، ويذكر أن ديباجة ذلك القرار أشارت إلى أنه جاء استجابة لشكوى من دول الخليج بشأن الاعتداءات على السفن التجارية التي تقصد وتخرج من موانئ دولة الكويت والمملكة العربية السعودية، ولم تكن تلك الجهود الجماعية سوى غيض من فيض فكانت هناك جهود خليجية لتحرير الكويت 1991 والتعامل مع تداعيات الغزو الأمريكي للعراق 2003 ثم تداعيات تحولات العالم العربي عام 2011 وصولاً إلى تطورات الأمن الإقليمي الراهنة.
ولست بحاجة إلى إعادة التأكيد أن بقاء المجلس في ظل تجميد عمل بعض التنظيمات الإقليمية الأخرى أو انهيار البعض الآخر يعد بحد ذاته مصدر قوة للمصالح والأهداف الخليجية المشتركة.
وعود على ذي بدء: لماذا الحديث عن المبادرة الأمنية الخليجية؟ وبعبارات موجزة تشهد منطقة الخليج العربي في الوقت الراهن تحولات لن تكون آثارها وقتية ولكنها سوف ترتب تأثيرات في المنظومة الأمنية الخليجية على المدى البعيد، فمن مؤشرات التقارب الخليجي مع إيران التي تستعد لانتخابات رئاسية محلاً لتنافس تياري المحافظين والإصلاحيين وما سوف تسفر عنه من توجهات بشأن العلاقة مع دول الخليج إلى زيادة وتيرة تهديدات الملاحة البحرية التي ربما تتطلب ترتيبات أمنية أكثر نطاقاً من أطراف المنطقة وصولاً إلى احتدام التنافس الدولي تجاه منطقة الخليج والذي لم تعد الجوانب العسكرية مجاله الوحيد بل للاقتصاد والتكنولوجيا والأمن الناعم نصيب هائل من ذلك التنافس، فضلاً عن الحرب في غزة وما سوف تتطلبه من ترتيبات واستحقاقات لن تكون دول الخليج بمنأى عنها.
وبالتوازي مع تلك التطورات الإقليمية فإن ثمة مؤشرات ثلاثة لافتة تعد أرضية مواتية لإطلاق رؤية خليجية أمنية متكاملة أولها: تأكيد السيد جاسم البديوي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في يناير 2024 أن التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون هو الهدف الأهم في المرحلة الحالية، وأن دول المجلس تسعى إلى تجاوز مختلف التحديات التي تواجه تحقيقه، وثانيها: تسارع وتيرة الزيارات الرسمية الثنائية بين دول الخليج والتي تعكس تنسيقاً وثيقاً بين دول المجلس، وثالثها: إن التأشيرة الخليجية الموحدة التي تتيح لحامليها دخول دول مجلس التعاون سوف يبدأ العمل بها مطلع عام 2025.
وجميعها مؤشرات تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك إصرار دول المجلس على تحقيق التكامل بين دوله في الميادين كافة وصولاً إلى وحدتها وفقاً لديباجة الميثاق المنشئ للمجلس والمادة الرابعة منه.
ويعني ما سبق أن ثمة تحولات خليجية وإقليمية ودولية تحتم على دول الخليج العربي سرعة ترجمة المبادئ التي أعلنها الأمين العام للمجلس بشأن أمن الخليج والأمن الإقليمي ضمن أطر عمل جماعية خليجية تحدد مصالح دول الخليج وتحدياتها وسبل العمل الجماعي لمواجهتها على غرار ما يقوم به حلف شمال الأطلسي «الناتو» بإصدار مفهوم استراتيجي كل عشر سنوات يتضمن شرحاً وافياً للبيئة الأمنية الإقليمية والعالمية للحلف وأولويات ومصالح دول الحلف وكيفية الحفاظ عليها وذلك المفهوم يتكامل مع الميثاق ولا يتعارض معه، وفي تصوري أن مجلس التعاون بحاجة إلى مفهوم استراتيجي مماثل في ظل تحولات غير مسبوقة تتيح فرصاً وتفرض تحديات تفوق قدرات الدول بشكل منفرد ومنها التكنولوجيا العسكرية التي أصبحت أداة المليشيات المسلحة في الصراعات والدعاية المضللة والتطرف والإرهاب.
ولا أبالغ القول إن لكل دولة أولوياتها الأمنية ولكن لا يتناقض ذلك مع المشروع الأمني الخليجي الذي سوف يرتكز على خبرات تراكمية من العمل المشترك بين دول تربطها أواصر تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كانت- ولاتزال- هي مصدر قوتها سواء الصلبة من خلال مسيرة التكامل الأمني والعسكري أو الناعمة من خلال تجارب متميزة من التسامح والتعايش بما يتطلب المضي قدماً وبلا تردد نحو ذلك المشروع.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»